تمر القراءة في مجتمعنا العربي بأزمة منذ فترة ليست بالقصيرة، وأزمة القراءة هي انعكاس لأزمة الثقافة برمتها، فمجتمعاتنا العربية تنوعت لديها وسائل تكنولوجيا المعلومات وكلها تعمل على مبدأ التنافس مع الكتاب دون قصد مباشر، ومنها الفضائيات وشبكة المعلومات ,الانترنت, واستخدام الحاسوب في ثورة المعلوماتية الهائلة.
ومع كل العادات التي أرسيت بعيدا عن القراءة، صار التوجه للقراءة نادرا وليس مشجعا ولا ينطوي على الكثير من التشويق والمتعة ولم يحافظ على عادات المطالعة والقراءة إلا المثقفون والنخبويون الذين ليست لديهم متعة غير القراءة والمعرفة. أما الجيل الجديد فليس له أي اهتمام واضح بالثقافة والقراءة إلا ما ندر؛ ولهذا صار الكثير منهم يشكون إفلاسا واضحا نحو الثقافة بكل اتجاهاتها وتفرعاتها.
تمثل مسألة القراءة واقتناء الكتاب والمساهمة في تطوير المعرفة من المسائل التي تشكل موضوعا مقلقلا لكل غيور على مستقبل هذه الأمة؛ لأن القراءة والمزيد من المعرفة والتعلم صارت هي البوابة الوحيدة للتخلص من التخلف والتبعية.
إن المتأمل واقع المجتمعات العربية ومن يتابع التقارير والدراسات التي أجريت في السنوات الماضية عن واقع القراءة وتأثيراتها يدرك التراجع الذي تشهده القراءة في كافة البلاد العربية، يضاف إليه قلة عدد المكتبات وتضاؤل أعداد دور النشر، وكلها مؤشرات خطيرة على الإهمال الذي تناله القراءة في زماننا من أبناء أمة ‘اقرأ’ التي هي أول كلمة خاطب بها جبريل عليه السلام سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وفي المقابل نجد الاهتمام الكبير بالقراءة بشتى أنواعها في المجتمعات الغربية وتشجيع الفرد هناك على اقتناء الكتب والمجلات المختلفة، وهذا الاهتمام نجده عند الفرد الغربي في صور متعددة منها استغلاله لوقته في تصفح كتاب أو مجلة حتى في حالات السفر والتنقل في وسائل الموصلات العامة.
أما هذا الخمول والإهمال الذي يتصف به الإنسان العربي تجاه القراءة يهدد الأمة بحدوث عواقب خطيرة في المستقبل كفقدان الهوية وضياع الموروث التاريخي الأصيل وضمور الأمة عن إنتاج المعرفة والوصول إلى القدرات العالية في التصنيع والإنتاج والإعلام الفاعل في شتى مجالات الحياة والتعريف بالهوية والتاريخ العربي.إن المدارس والجامعات والمعاهد تلفظ في كل عام أعدادا هائلة من الخريجين تتفاوت درجاتهم العلمية وتخصصاتهم.
لكن الطامة الكبرى أنهم أنصاف المتعلمين، ولا اقصد هنا الجميع لكن للأسف هم الأكثرية وإن تغلبنا في بعض مناطق وطننا العربي على أمية القراءة والكتابة لكننا ما زلنا في أمية الثقافة بين المتعلمين حيث تتراءى لهم المعرفة والعلم بكل صغيرة وكبيرة. ولعل أخطر أمية متفشية في العالم العربي هي أمية المتعلمين، فأغلبهم لا يقرأ كتابا إلا مرة في السنة في أحسن الأحوال، وأحيانا لا يقرؤون البتة، خصوصا بعد أن قرروا استبدال كل شيء بالصحون المقعرة والجلوس لساعات طويلة أمام شاشات التلفاز لمتابعة برامج التسلية المختلفة والتي قد تعرض سيرة أو رواية لكاتب قد يأخذ الممثل فيها الشهرة والمعرفة باسم صاحب ذلك المؤلف
رغم أن ذلك المنتوج الأدبي كان على الرفوف وبين أحضان جدران المكتبات وأحيانا يفترش الطرقات مع الباعة المتجولين، وقد أشار الدكتور. طه حسين مرارا إلى هبوط مستوى الجامعيين، وارتدادهم إلى التخلف الثقافي بعد تخرجهم، وانعدام عادة القراءة يذكرنا بما قاله “موشيه ديان” وزير الحرب الإسرائيلي بعد حرب 1967م عندما سئل عن أسباب هذه الحرب، وهل كانت مفاجئة للعرب أم لا؟ نفى ذلك وقال: “كلا، لقد نشرنا كل ما يتعلق بحرب حزيران (يونيو) قبل وقوعها، لكن العرب أمة لا تقرأ”. وأضاف آخر: “وإذا قرأ العرب لا يفهمون وإذا فهموا لا يفعلون، وعليه فسنبقى نحن المسيطرين…”
عوامل كثيرة أدت إلى عزوف الشباب عن القراءة وظهور ما يسمى بأمية المتعلمين وهي عدم اكتساب عادة القراءة في الصغر من قبل الوالدين، فالقراءة عادة مكتسبة تحتاج لتركيز كافة الحواس وتفريغ الوقت ما يبعد الطلاب عنها والمضحك أحيانا تعرض الطالب الذي يتصفح كتاباً غير كتابه المدرسي إلى توبيخ من قبل الوالدين أو حتى المعلمين بحجة أن التعليم لا يكون إلا بالمنهاج المدرسي وغير ذلك مضيعة للوقت.
إن معدلات القراءة في الوطن العربي أصبحت محل قلق المنظمات الدولية وللنخبة المثقفة، فقد جاء في تقرير منظمة اليونسكو لعام 2003م إن معدلات المعرفة في الوطن العربي وصلت إلى أقل معدلاتها على مستوى القراءة والتأليف، وهو ما يؤكد أن المعرفة تراجعت إلى درجة مزرية مما يعد جزءا من السقوط الحضاري للأمة على الرغم من المؤتمرات ومعارض الكتاب التي تعد أحيانا ضمن زاوية المجاملات الاجتماعية واقتناء الكتب دون معرفة قيمتها وما تحتويه على معلومات نفيسة.
نحن نعيش عصر العولمة وطغيان ثقافة الانترنت وسهولة الحصول على المعلومة دون عناء، فأدوات الجيل الثاني من الويب أصبحت مؤثرة إذ أن ‘الفيس بوك’ و ‘اليوتيوب’ وغيرها أصبحت الأدوات الثقافية الجديدة وخلقت ثقافة الحوار والتعريف بالذات من خلال هوية وبلد المشترك وعاداته والتواصل مع الآخر ووضع قضية ما على محك الحوار واستقطاب المحاورين في دقائق.
وبغضّ النظر عما يحمله هذا النمط الجديد من ثقافة الحوار فإنه قد يحمل عدداً من السلبيات إذا لم يتم تشجيع الشباب العربي على اعتماد مناقشة ما يقرؤونه من كتب كمبدأ للحوار، سواء كانت هناك مناسبات ثقافية أو ذكرى رحيل مبدع عربي أو غربي من مبدأ المعرفة والتزود بالثقافة. إن عدم إثراء المحتوى العربي المعرفي على شبكة الانترنت هو الأصعب، فكم هو عدد الكتب الالكترونية العربية؟ وكم عدد رسائل الماجستير والدكتوراه المتاحة على شبكة الانترنت؟ وكم هو عدد المجلات العلمية الالكترونية؟ وكم عدد بحوث المؤتمرات المتاحة الكترونيا؟
الجواب يكون نادرا أو معدوماً وبالتالي لم يتبق لنا في ثقافة الانترنت غير الكثير من المحتوى الذي إما أن يكون غير أخلاقي أو سياسياً أو ترفيهياً. ولكن بما أن العرب يشكلون 5% من سكان العالم فما حصتهم من الإنتاج المعرفي العالمي؟ على سبيل المثال يضم العالم العربي قرابة 395 جامعة، ولكن ما الإنتاج العلمي المشهود لأساتذة الجامعات ففي الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة لا توجد جامعة عربية واحدة؟
إن الارتقاء بالقراءة بوضع برامج وخطط ومشاريع ترصد لها ميزانيات بهدف إثراء المحتوى المعرفي على شبكة الانترنت بتحويل الكثير من موارد المعلومات الثقافية والعلمية من الشكل المطبوع إلى الرقمي مع مراعاة حقوق الملكية الفكرية للناشرين والمؤلفين. تضاف أزمة القراءة في العالم العربي إلى منظومة الصعوبات والمعوقات التي يعاني منها الوطن العربي من محيطه إلى خليجه مما أدى إلى هذا التراجع الخطير لدور المثقف العربي على كافة الصعد والمستويات، وذلك باعتبار أن القراءة بمفهومها الشامل والحديث ليست مجرد الجهر والنطق بالكلمات، ولكنها عملية فكرية عقلية تستند إلى العديد من المهارات كالنقد والتحليل مما يؤدي إلى تفاعل منهجي بين القارئ وبين ما يقرأ.
ويقف الغزو الإعلامي المتمثل في مختلف وسائل الإعلام خاصة القنوات الفضائية عائقا أمام القراءة ومطالعة الكتب، فإذا كانت قراءة الكتب تستوجب إعمال العقل والتركيز والتفكير فإن مشاهدة برامج قنوات التلفزة لا تتطلب عناء كبيرا، وإن كانت هناك محاولات من قبل بعض وسائل الإعلام السمعية والبصرية على إنتاج برامج ثقافية إلا أنها تبقى نقطة في بحر من حيث عدد المشاهدين وساعات العرض وان تمت متابعتها فللأسف يكون المتابعون من المثقفين فقط.
وقد تفشت ظاهرة القراءات الرخيصة التي تتمثل في قراءة المواضيع التافهة التي لا تسمن أو تغني وغالبا ما تكون تلك القراءات تكميلية لبرامج تصب في خانة مضيعة الوقت. إن إعراض الناس عن القراءة هو عبارة عن أزمة طاحنة، وهي أكبر بكثير مما نعانيه من مشكلات مزمنة مثل البطالة والمخدرات والفقر، يلعب فيها أحيانا الدين والعادات والسلطة دورا قد يصل إلى تحريم أو رفض فكر واعتباره تحديا مرفوضا من خلال تفسيرات يغيب فيها العقل والمنطق الذي يقود إلى صراع بين السلطة السياسية والدينية من جهة والمثقف من جهة أخرى يخلق خوفا من الكتاب والقراءة ويشن حربا خفية وعلنية على المثقف يلعب فيه الرقيب دور الشرطي والحارس فيما يكتب وينشر.
أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى مؤتمرات ثقافية ولكن بحاجة إلى جعل القراءة تربية ونموذجا إن أردنا أن يكون لنا دور في زمن العولمة والهيمنة والغزو الثقافي الغربي الذي قد يقلب الحقائق ويزور التاريخ الذي يصنعه أويفرضه دائماالمنتصر