“القضية التي أطاحت بالمدير الأسبق للتربية وأربعة موظفين تكشف حجم التلاعب بصفقات التجهيز في ولاية الجلفة، حيث ضاعت أموال بالملايير بين تصريحات رسمية وواقع مدرسي بائس يعاني فيه التلاميذ من انعدام أبسط الوسائل التعليمية.”
تشهد ولاية الجلفة منذ أيام حالة ترقب غير مسبوقة بعد الإعلان عن مثول المدير الأسبق للتربية رفقة أربعة موظفين من المديرية أمام قاضي التحقيق بمحكمة الجلفة، في قضية تتعلق بملف التجهيز الذي ظل لسنوات يثير الكثير من الجدل وسط الشارع المحلي. فالقضية، التي انفجرت بعد توقيف المعنيين ووضعهم تحت النظر من قبل قطب التحقيقات بسحاولة، لم تأت من فراغ، بل هي امتداد لمسار طويل من التساؤلات والشبهات التي رافقت الصفقات العمومية في قطاع التربية، خاصة ما تعلق منها بتجهيز المؤسسات التربوية بالوسائل البيداغوجية واللوجستية.
فمنذ سنوات، كانت السلطات تعلن عن تخصيص مبالغ ضخمة لتحسين ظروف التمدرس، سواء عبر بناء المدارس أو تجهيزها بالوسائل الضرورية. غير أن الواقع في الميدان كان مختلفًا تمامًا، حيث ظل أولياء التلاميذ يشتكون من غياب الطاولات والكراسي في الأقسام، وقدم السبورات، وغياب أجهزة التدفئة في الشتاء، إضافة إلى رداءة نوعية الوسائل التي وصلت إلى بعض المؤسسات، ما جعل الكثيرين يتساءلون عن مصير تلك الأموال التي رُصدت للتجهيز. بعض المدارس في الجلفة بقيت لسنوات بلا مخابر عملية في مواد العلوم، وأخرى تفتقر حتى إلى مكتبات أو وسائل تعليمية حديثة، في وقت تشير فيه تقارير رسمية إلى أن المبالغ المخصصة لهذا الملف تعد بالملايير.
وبين هذا الخطاب الرسمي والواقع الميداني، تزايدت الشبهات حول وجود خروقات في تسيير ملف التجهيز، إلى أن جاءت التطورات الأخيرة التي وضعت المدير الأسبق للتربية وأربعة من موظفيه في قلب التحقيقات القضائية. ووفق مصادر متطابقة، فإن التحقيقات الأولية ركزت على طريقة تمرير بعض الصفقات، وإمكانية وجود تضخيم في الفواتير أو التلاعب في نوعية التجهيزات، وهو ما قد يفسر الهوة الكبيرة بين ما تم الإعلان عنه رسميًا وبين ما هو متوفر فعليًا في المدارس.
القضية في بعدها الاجتماعي تتجاوز الأشخاص المعنيين مباشرة، فهي تمس جوهر العملية التربوية في واحدة من أكبر ولايات الجزائر مساحة وسكانًا. فالتلاميذ الذين يفترض أن يكونوا المستفيد الأول من هذه الأموال وجدوا أنفسهم أكبر الخاسرين، إذ دفعوا ثمن الإخفاقات وسوء التسيير من مستقبلهم الدراسي. وقد عبّر العديد من أولياء التلاميذ عن ارتياحهم لإحالة الملف على القضاء، معتبرين أن ما حدث فرصة لكشف الحقائق ووضع حد لسنوات من التلاعب الذي طال قطاع التربية في الجلفة. أحد الأولياء صرّح في حديث جانبي أن ابنه يدرس في قسم يضم أكثر من 40 تلميذًا على مقاعد مهترئة، بينما المدرسة التي ينتمي إليها يُفترض أنها استفادت من عملية تجهيز حديثة قبل سنوات قليلة. هذه المفارقات تترجم حجم التناقض الذي عاشه القطاع.
المتابعون للشأن المحلي يرون أن الملف يكشف أيضًا عن خلل في منظومة الرقابة الإدارية، حيث كان من المفترض أن تتم متابعة مشاريع التجهيز من قبل لجان ولائية وجهوية وحتى مركزية. غير أن الواقع أثبت أن تلك الرقابة كانت شكلية في كثير من الأحيان، ما سمح بتمرير تجاوزات خطيرة دون محاسبة. وهذا ما جعل الرأي العام المحلي يطالب بتوسيع التحقيق ليشمل ملفات أخرى ترتبط بالنقل المدرسي والإطعام، وهي ملفات لطالما أثيرت حولها علامات استفهام بسبب الظروف المزرية التي عاشها التلاميذ، خاصة في القرى والمناطق الريفية.
القضية لا يمكن فصلها عن سياق وطني أوسع، حيث شهدت ولايات أخرى تحقيقات مماثلة في ملفات التربية، مثل قضايا تضخيم فواتير التجهيز أو سوء نوعية الوسائل المسلمة. ففي بعض الولايات اكتشفت السلطات أن كراسي وطاولات المدارس تم جلبها من مخازن قديمة وأعيد تلميعها لتُحسب كتجهيز جديد، بينما في ولايات أخرى تم تسليم أجهزة حاسوب ووسائل بيداغوجية مغشوشة. كل هذه الممارسات تعكس، وفق محللين، طبيعة إشكالية في تسيير المال العام، حيث يغيب التنسيق والرقابة الفعالة، فيتحول قطاع حيوي مثل التربية إلى مجال خصب للفساد والتلاعب.
في الجلفة، التي تُصنف ضمن الولايات ذات الكثافة السكانية العالية، تتضاعف خطورة هذه القضية، إذ أن أي خلل في قطاع التربية ينعكس مباشرة على عشرات الآلاف من التلاميذ. فكيف يمكن الحديث عن جودة تعليم في أقسام بلا وسائل حديثة، أو عن تحفيز للتلاميذ وهم يدرسون في ظروف أقل ما يقال عنها إنها بدائية؟ هنا تكمن رمزية هذا الملف، فهو ليس مجرد نزاع قانوني حول صفقات، بل هو قضية تمس حقًا أساسيًا من حقوق الأطفال في التعليم الجيد.
على المستوى الرسمي، لم تصدر بعد بيانات تفصيلية من السلطات القضائية حول التهم الدقيقة الموجهة للمتهمين، لكن مجرد إحالة الملف على قاضي التحقيق يُعد مؤشرًا قويًا على أن هناك معطيات جدية تستوجب النظر والفصل. وهو ما جعل الكثيرين يرون أن فتح هذا الملف قد يكون بداية لمسار جديد في محاربة الفساد محليًا، خاصة في القطاعات التي تمس حياة المواطن اليومية.
أما في الشارع الجلفاوي، فقد تباينت المواقف بين من يرى أن هذه الخطوة تأخرت كثيرًا، وبين من يخشى أن تتحول إلى مجرد قضية ظرفية تنتهي بقرارات إدارية محدودة دون معالجة جذرية للمشكلة. غير أن المشترك بين هذه المواقف جميعًا هو الأمل في أن يتم كشف الحقائق للرأي العام، ومحاسبة كل من يثبت تورطه، سواء كان مسؤولًا كبيرًا أو موظفًا صغيرًا.
في انتظار ما ستكشفه جلسات التحقيق القادمة، يبقى الأكيد أن قطاع التربية في الجلفة يقف أمام لحظة مفصلية، فإما أن تتحول هذه القضية إلى نقطة انطلاق لإصلاح حقيقي يعيد الثقة للمواطنين في المؤسسات، أو أن تضاف إلى سلسلة القضايا التي تنتهي بلا أثر يذكر. وفي كلتا الحالتين، فإن صورة الإدارة المحلية على المحك، وكذلك مصداقية الدولة في محاربة الفساد على أرض الواقع.
إن ما يميز هذه القضية أيضًا هو أنها جاءت في ظرف سياسي تعلن فيه السلطات المركزية عن عزمها مكافحة الفساد في كل المجالات، ما يمنحها رمزية مضاعفة. فإذا ما عولج الملف بجدية وشفافية، فقد يشكل سابقة إيجابية تشجع المواطنين على الإبلاغ عن التجاوزات، أما إذا بقيت نتائجه محدودة، فسيكرس شعورًا باللاجدوى ويفتح الباب أمام مزيد من فقدان الثقة.
القضية إذن أكبر من مجرد أسماء يمثلون أمام القضاء، إنها مرآة لسنوات من سوء التسيير في قطاع كان يفترض أن يكون الأكثر أمانة وحرصًا على مستقبل الأجيال. وفي الوقت الذي ينتظر فيه الشارع المحلي ما ستسفر عنه التحقيقات، يبقى الأمل معلقًا على أن تتحول هذه المحاكمة إلى بداية فعلية لإرساء ثقافة جديدة قوامها الشفافية والمحاسبة، حتى لا يظل تلاميذ الجلفة وأولياؤهم رهائن لممارسات أضرت بمستقبلهم أكثر مما خدمتهم.