يبدو أن المغرب يعيش هذه الأيام نشوة انتصار وهمي جديد، من صناعة إعلامه الموجه ومنصاته الممولة، التي تسوّق الوهم للشعب كما تسوّق السراب في صحراء عطشى. فبعد صدور قرار مجلس الأمن حول قضية الصحراء الغربية، هرعت القنوات المخزنية، ومن تبعها من منصات عربية مأجورة كقناة “العبرية”، لتقرع طبول “الانتصار الدبلوماسي”، وتغمر الفضاء بخطاب منفوخ بالغرور والجهل والتمويه.
غير أن الحقيقة – كما يعرفها المتابعون الجادون للمسار الأممي لا علاقة لها بهذا الخطاب المنتشي. فالنص النهائي للقرار، وبعد التعديلات التي قادتها الجزائر والدول الداعمة للشرعية الدولية، عاد ليؤكد صراحة على مبدأ تقرير المصير كحل وحيد ونهائي، ويفتح الباب أمام إعادة تقييم شاملة لبعثة “مينورسو”، تلك البعثة التي حوّلها المخزن طوال سنوات إلى أداة تعطيل بدل أن تكون أداة سلام.
المخزن.. من التناقض إلى الهوس الدعائي من يراقب الأداء المغربي يكتشف بسهولة كيف انتقل النظام هناك من حالة الدفاع المذعور إلى الهجوم الإعلامي الهستيري. فالمخزن، الذي يدرك أن القرار جاء خاليًا من أي تزكية لخطة “الحكم الذاتي”، لجأ إلى تضخيم فقرة “الواقعية والقبول من الطرفين” ليجعل منها انتصارًا وهميًا، في حين أن هذه العبارة ذاتها كانت موجودة في قرارات سابقة، بل إنها لا تمنح الشرعية لأي طرف، بل تشترط التوافق والاحترام الكامل لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
لكن ماذا يفعل المخزن غير التلاعب بالمصطلحات؟
إنه يحاول، كما جرت عادته، تغطية الفشل بالدخان. فبدل أن يواجه حقيقة أن الجزائر تمكنت بذكاء دبلوماسي من إعادة التوازن للمسار الأممي بعد سنوات من الانحراف، يفضل أن يخترع انتصارًا إعلاميًا يوزعه على قنواته المحلية وحسابات الذباب الإلكتروني التي لا تتوقف عن تكرار كلمة “الانتصار” كما لو كانت تعويذة سحرية ضد الفشل.
قناة “العبرية”.. من التحليل إلى التحريض لم يكن غريبًا أن تنخرط قناة “العربية” – أو “العبرية” كما يسميها الشارع المغاربي – في حملة التطبيل للمخزن. فالقناة التي فقدت منذ زمن صفة المهنية، تحولت إلى بوق سياسي ينفذ أجندات محددة، مرة ضد اليمن، ومرة ضد سوريا، واليوم ضد الجزائر.
في تغطيتها الأخيرة، تبنّت “العبرية” الرواية المغربية دون حتى محاولة قراءة نص القرار، وبدأت تتحدث عن “الانتصار الدبلوماسي للمملكة المغربية”، وكأنها تتلو بيانًا من وزارة الخارجية بالرباط.
لكن ما تجاهلته القناة عمداً هو أن القرار الأممي الأخير لم يمنح المغرب أي صفة سيادية على الأراضي الصحراوية، ولم يعترف لا بحدوده المزعومة ولا بطرح “الحكم الذاتي” كخيار نهائي، بل أكد بوضوح على استمرار جهود المبعوث الأممي نحو حل يقوم على “تقرير المصير”.
أي أن ما تعتبره “العبرية” انتصارًا، هو في الحقيقة تثبيت للهزيمة السياسية التي يحاول المخزن الهروب منها.
الجزائر.. دبلوماسية الهدوء والانتصار الصامت في المقابل، لم تكن الجزائر بحاجة إلى احتفالات صاخبة أو حملات إعلامية لتؤكد قوتها. فالموقف الجزائري اتسم، كعادته، بالثبات، والوضوح، والالتزام بالقانون الدولي. الجزائر لم تغيّر خطابها منذ البداية: “نحن مع الحل الأممي القائم على تقرير المصير، ومع احترام الحدود الدولية، وضد أي احتلال”.
وهذا الثبات هو ما أربك المخزن وداعميه، لأنه حرمهم من خصمٍ متقلب يمكن ابتزازه.
ففي الوقت الذي يرقص فيه الإعلام المغربي على أنغام الانتصارات الوهمية، كانت الجزائر تسجل نصرًا دبلوماسيًا حقيقيًا في أروقة الأمم المتحدة، من خلال حشد التأييد لمبدأ الشرعية، وإعادة صياغة التوازن في نص القرار، وهو ما اعترفت به مصادر أممية بصيغة غير مباشرة.
إن الصمت الجزائري في مواجهة الضجيج المغربي هو دليل قوة لا ضعف، لأن من يملك الحق لا يحتاج إلى الصراخ لتثبيته.
عندما يحتفل المهزوم بالهزيمة اللافت أن الخطاب المغربي هذه المرة بلغ درجة من السخرية جعلت المتابعين يتساءلون:
كيف يمكن لدولة أن تعتبر قرارًا يعيد فتح الملف انتصارًا؟
كيف تحتفل حكومة بقرار يُبقي الوضع كما هو ويعيد التأكيد على مسؤولية الأمم المتحدة في تنظيم استفتاء لتقرير المصير؟
هل أصبح الانتصار في قاموس المخزن يعني فقط “عدم الخسارة الفورية”؟
إن ما جرى في الرباط هذه الأيام ليس احتفالاً بالنصر، بل هروب جماعي من الاعتراف بالفشل.
المخزن يدرك أن كل رصيده في السنوات الأخيرة بدأ يتآكل:
فالعلاقات مع أوروبا تعرف فتورًا متصاعدًا، والبرلمان الأوروبي يراقب ملف حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية، والاتحاد الإفريقي يستعيد دوره كإطار قانوني يعترف بالجمهورية الصحراوية كعضو مؤسس.
في هذا السياق، لم يكن أمام المخزن إلا أن يفتعل “فرحًا دبلوماسيًا” لتسكين الصدمة وتضليل الرأي العام المحلي.
الجزائر تُعيد تعريف ميزان القوة التحركات الجزائرية الأخيرة، سواء في مجلس الأمن أو في العمق الإفريقي، أثبتت أن الجزائر استعادت زمام المبادرة، وأنها أصبحت اللاعب الإقليمي الأكثر تأثيرًا في شمال إفريقيا.
فبينما يتخبط المخزن في تحالفات هشّة مع الكيان الصهيوني، تراهن الجزائر على الشرعية الدولية، على التاريخ، وعلى مبدأ سيادة الشعوب.
لقد انتصرت الجزائر ليس فقط في مضمون القرار، بل في استعادة روح العدالة التي حاولت الدعاية المغربية طمسها.
إن عودة الأمم المتحدة للتأكيد على “تقرير المصير” هو في حد ذاته اعتراف بأن طرح الحكم الذاتي لم يعد مقنعًا، وأن الحل الوحيد المقبول دوليًا هو الذي يتيح للشعب الصحراوي حرية اختيار مصيره. وهذا ما كانت الجزائر تدافع عنه منذ عقود دون تنازل.
المخزن بين ازدواجية الخطاب وعقدة الجزائر من الواضح أن النظام المغربي يعيش عقدة الجزائر، فهو لا يستطيع أن يتحدث في أي ملف دون أن يزج باسمها.
ففي كل مرة يجد نفسه محشورًا في الزاوية، يطلق حملاته الإعلامية ضد الجزائر في محاولة لتحويل الأنظار.
لكن ما لا يدركه المخزن هو أن الجزائر لا ترد على الشتائم بالشتائم، بل بالإنجازات والمواقف.
في الوقت الذي ترفع فيه الرباط شعارات “المغرب الكبير”، كانت الجزائر تعمل بصمت على إعادة بعث الاتحاد الإفريقي، وتوطيد العلاقات مع دول الساحل، وتكريس حضورها في ملفات الطاقة والأمن.
حين تكون الهزيمة انتصارًا في قاموس المخزن لقد أصبح من المألوف أن نرى النظام المغربي يحتفل بالخسائر كأنها مكاسب.
من “قضية بيغاسوس” إلى “فضيحة البرلمان الأوروبي”، ومن “التطبيع المهين مع الكيان الصهيوني” إلى “قرار مجلس الأمن الأخير”… سلسلة متواصلة من التنازلات التي تُقدَّم للشعب المغربي في ثوب “انتصارات تاريخية”.
لكن في المقابل، الجزائر تمضي بثبات نحو بناء دبلوماسية سيادية مستقلة، لا تبحث عن التطبيل الإعلامي، بل عن تثبيت الحق في الميدان الأممي.
أما المخزن، فسيبقى رهين دعايته، أسير أوهامه، ينتشي بقرارات لا يفهمها، ويحتفل بهزائم لا يجرؤ على تسميتها بأسمائها.
وفي النهاية، يبقى الفرق بين الجزائر والمغرب كالفرق بين من يبني تاريخه بالحقيقة، ومن يكتب خطبه بالكذب.
فالجزائر لا تحتاج إلى “العبرية” لتصنع مجدها، بل تصنعه بدماء شهدائها وبمواقفها السيادية التي لا تُشترى.



















