في مشهد مأساوي قلّ نظيره، تحوّلت قرية ترسين الواقعة بجبل مرّة في السودان إلى كابوس إنساني بعدما غمرتها الانزلاقات الأرضية الناتجة عن أمطار غزيرة، لتبتلع التربة عشرات البيوت ومئات الأرواح في لحظة واحدة.
لقد وجد الأهالي أنفسهم أمام فاجعة غير مسبوقة: عائلات بكاملها طُمِرت تحت التراب، وأصوات الاستغاثة سرعان ما خفتت أمام قوة الطبيعة العاتية، تاركة خلفها أكثر من ألف ضحية بحسب التقديرات الأولية. هذا الحدث الكارثي لم يكن مجرد انزلاق أرضي عابر، بل مأساة بحجم الزلازل الكبرى. ورغم ذلك، مرّ الخبر في وسائل الإعلام العالمية مرور الكرام: لا بيانات عاجلة من الأمم المتحدة، لا وقفات تضامن في العواصم الكبرى، لا أضواء ملونة على المباني الشهيرة، ولا حتى دموع افتراضية من أولئك الذين اعتادوا تحويل حوادث سطحية إلى قضايا كونية. السودان هنا لا يفتقد فقط أبناءه الذين فقدهم في ترسين، بل يفتقد أيضًا أبسط أشكال التضامن الإنساني، ذلك الحداد الجماعي الذي كان سيُمنح بلا تردد لو أن الضحايا من دولة غنية أو من عاصمة أوروبية. الحقيقة المؤلمة أن الكارثة كشفت مجددًا أن “الإنسانية المعولمة” انتقائية، تُقاس بمعايير الدين والجغرافيا والعملة. فلو أن عشرة أشخاص فقط تعثروا في شوارع باريس، أو لو هلكت بضع حيوانات أليفة في نيويورك، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولسخّرت كبريات القنوات ساعات بثّها لتغطية التفاصيل. لكن حين يتعلق الأمر بألف روح في السودان، فإن الحدث لا يتجاوز سطرًا باهتًا في نشرات الأخبار. والأدهى أن الصمت لم يأت من الغرب وحده، بل من المحيط العربي والإسلامي أيضًا. فباستثناء بيانات خجولة، لم ينعكس على الأرض أي تضامن حقيقي: لا قوافل إغاثة عاجلة، لا حملات تبرع جماهيرية، ولا حتى صرخات إعلامية تليق بحجم الكارثة. لقد مرّت الحكومات والشعوب مرور اللئام على جراح أهلهم في السودان، وكأن ما جرى حدث في كوكب آخر. ما يزيد من هول الفاجعة أن حجم الضحايا فاق المنطق. فحتى أشد الانزلاقات الأرضية دموية نادرًا ما تحصد هذا العدد من الأرواح دفعة واحدة. هذا ما جعل بعض المراقبين يطرحون تساؤلات حائرة: هل كان الأمر مجرد انزلاق أرضي بفعل الأمطار، أم أنّ هناك عوامل بشرية – إهمال في البنى التحتية، غياب التحذيرات المبكرة، وربما سياسات تنموية عشوائية – ساهمت في تحويل الطبيعة إلى سلاح قاتل بهذا الشكل الغريب؟ جبل مرّة، الذي طالما مثّل لوحة طبيعية خلابة بسهوله الخضراء ووديانه الساحرة، تحوّل اليوم إلى شاهد على واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في السودان. قرية ترسين لم تعد موجودة تقريبًا، اختفت بين الطين والصخور، فيما يعيش الناجون في صدمة لا توصف، بعد أن فقدوا أهاليهم ومساكنهم في لحظة واحدة.
دروس مُرة هذه الكارثة تكشف أن منطقتنا لا تفتقر فقط إلى البنى التحتية القادرة على مواجهة الكوارث الطبيعية، بل تفتقر أيضًا إلى ثقافة “التضامن الذاتي”. ففي عالم أصبحت فيه صور “الهاشتاغ” تعوّض العمل الميداني، بات الضحايا في الأطراف الفقيرة يُدفنون مرتين: مرة تحت التراب، ومرة أخرى تحت صمت العالم.
إن ما وقع في ترسين بجبل مرّة ليس مجرد حادث طبيعي يُسجّل في تقارير الأرصاد، بل فضيحة أخلاقية تفضح عجز النظام الدولي والعربي عن معاملة كل الأرواح بالقيمة نفسها.
رحم الله ضحايا السودان جميعًا، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، ورفقًا بأهلنا هناك في هذا المصاب الجلل. أما نحن، فواجبنا ألا نسمح أن تُطوى هذه المأساة في ذاكرة النسيان، وألا نتركها مجرد “خبر عاجل” عابر في أسفل الشاشة.