الجلفة أونلاين

بوكيحل… حين يُغتال التاريخ على موائد الرسميات

بوكيحل… حين يُغتال التاريخ على موائد الرسميات

الجلفة – في وقت تنتظر فيه الذاكرة الجماعية تكريمًا صادقًا لرموزها ومواقعها الثورية، جاء الملتقى الوطني الذي احتضنته جامعة الجلفة بعنوان “بوكيحل: الهوية والصمود” محمّلاً بكثير من التساؤلات، وخيبات التطلّع. فالحدث، الذي من المفترض أن يكون مناسبة للتوثيق والنقاش المعمّق حول واحدة من أعظم معارك الولاية السادسة، انتهى على نحو باهت، أقرب إلى تظاهرة بروتوكولية منه إلى وقفة تأمل في رمزية الجبل وتضحيات رجاله.

حين يكون التاريخ ضيفًا على موائد الرسميات، فلا عجب أن يُهمَّش أصحاب القضية الحقيقيون، وتُستبدل المواقف بالكاميرات، والوجوه النضالية بالتصفيق البارد. هذا ما حدث فعلاً خلال اليوم الأول للملتقى، حيث طغى المشهد الرسمي على الجوهر، وتحول الافتتاح إلى استعراض للعلاقات العامة والتقاط الصور، فيما اختفت النقاشات الجادة وغابت الرؤية الأكاديمية الحقيقية.

صحيح أن كلمة الدكتور برابح، مدير جامعة خميس مليانة، كانت بارقة أمل في خضم هذا الفراغ، غير أن حضورها وحده لم يكن كافيًا لإنقاذ المشهد من الرداءة التي غلّفت تفاصيل الملتقى.

الأكثر إيلامًا، وربما الأكثر فظاعة، هو تغييب من عايشوا المرحلة فعلاً. المجاهد الرائد عمر صخري، أحد آخر القيادات الثورية في الولاية السادسة، لم يُمنح حق الحديث أو الشهادة. شخصيات كان من الواجب أن تكون في صدارة الحدث التاريخي، تمّ ركنها في الهامش، بل وصل الأمر إلى تخصيص قاعة شبه فارغة في اليوم الثاني لاستقبالهم، وكأنّ هذا التاريخ لا يستحق حتى جمهورًا.

في زمنٍ أصبحت فيه “البهرجة” عنوان التغطيات، يغيب الإعلام حين تكون اللحظة أصدق من كل العناوين. لحظةٌ تاريخية قد لا تُعاد، يُدوّنها أحد أعظم رجال هذا الوطن، المجاهد عمر صخري، بصوتٍ شابته التجربة وملأه الرصاص والرماد، ليحكي لنا ما لم يُكتب… وما لن يُروى إلا من فمه. هو لا يبحث عن كاميرا… بل عن ضمير يوثّق، عن قلمٍ لا يُباع… وعن وطن لا يُنسى. أمثاله لا تُكرَّم بالصخب، بل تُخلَّد بالصمت المُهاب، والإنصات العميق.

ماذا يعني أن يتم تجاهل شهادات من شهدوا المعارك وكانوا شهودًا على تفاصيلها؟ وأي معنى يبقى لمثل هذه التظاهرات حين يُقصى التاريخ لصالح اللحظة الاستعراضية؟

من بين ما تم تداوله – وللأسف، لم يتم نفيه – هو تغييب بعض الشخصيات الأكاديمية والفاعلين التاريخيين من شمال الولاية لصالح دعوات خاصة و”انتقائية” لأسماء من الجهة الجنوبية. فهل كان هناك فرز غير معلن؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه خللاً في التنسيق؟ مهما تكن الإجابة، فإن صورة الملتقى تأثرت بوضوح بهذه الممارسة التي لا تليق بمقام بوكيحل ولا بتاريخ الجلفة.

اليومان اللذان خُصصا لإحياء الذاكرة، كشفا – في مفارقة مؤلمة – أن هناك ذاكرة مضادة تشتغل بكل طاقتها لتبديد المعنى. اليوم الأول يعجّ بالمسؤولين والكاميرات، واليوم الثاني تقام فيه فعاليات رمزية أمام قاعة فارغة، في مشهد يلخص أزمة حقيقية: أزمة في فهم دلالات التاريخ، وفي احترام من كتبوه بالدم والتضحيات.

لم يكن الملتقى مناسبة لبناء الوعي أو تعميق الانتماء، بل جاء ليعيد إنتاج ذات النمط الباهت من التظاهرات: عناوين كبيرة، تنسيق ضعيف، محتوى مفكك، ونتائج لا تُذكر. والأسوأ من ذلك، أن هذا يحدث في منطقة تعدّ من أكثر المناطق وفاءً لذاكرتها الثورية.

بوكيحل ليس مجرد جبل، بل شاهد على ملاحم رجال حملوا الوطن على أكتافهم. وإن كانت الذاكرة الجماعية لا تجد من يصونها بصدق، فعلى الأقل يجب ألّا تتحول إلى سلعة دعائية تُباع في مواسم المناسبات.

ما حدث في جامعة الجلفة لم يكن احتفاءً بالتاريخ، بل كان – في جوهره – اجترارًا رسميًا للذكرى، خالٍ من حرارة الانتماء. ولأن الذاكرة لا تموت، فإن بوكيحل سيبقى صامدًا في ضمير الأوفياء، مهما خانته الملتقيات الرسمية.

المصدرالجلفة أونلاين
Exit mobile version