لم يكن غياب الملك محمد السادس عن حفل افتتاح كأس أمم إفريقيا تفصيلا بروتوكوليا يمكن تجاوزه، ولا حادثا عرضيا يختزل في حسابات تنظيمية أو ظروف عابرة. لقد كان لحظة سياسية كثيفة الدلالات، اخترقت واجهة الاحتفال الملمعة، وأسقطت — دون تصريح — رواية رسمية سعت إلى تسويق الحدث بوصفه شهادة جاهزية واستقرار ونجاح. في يوم كان يفترض أن يتجسد فيه رأس الدولة رمزا للسيادة والحضور، غاب الجسد، وحضر “الكادر”، فبدت الصورة المعلقة تعويضا مرتبكا عن حضور سيادي لم يتحقق.
سلطة المخزن، التي اعتادت تحويل المناسبات الرياضية الكبرى إلى منصات لاستعراض الولاء وتأكيد مركزية المؤسسة الملكية، وجدت نفسها أمام فراغ محرج. فحين تعبأ الآلة الإعلامية لأسابيع، وتلمع الواجهات، وتقدم البطولة بوصفها تتويجا لمسار “النجاح”، ثم يغيب الملك عن لحظة الافتتاح، يتحول السؤال من فضول عابر إلى مساءلة سياسية مباشرة: لماذا غاب الملك؟ وماذا يعني هذا الغياب في سياق اجتماعي وسياسي مشحون؟
الخطاب الرسمي، كعادته، اختار الصمت. لا بلاغ، لا توضيح، ولا محاولة لاحترام حق الرأي العام في الفهم. غير أن هذا الصمت لم يكن حيادا، بل كان موقفا، فتح الباب واسعا أمام التأويلات. بين من تحدث عن تدهور الوضع الصحي للملك، ومن ربط الغياب بحسابات أمنية وخشية من تصعيد اجتماعي، في ظل تراكم أزمات لم تعد قابلة للإخفاء: من مأساة منكوبي زلزال الحوز الذين ما زالوا يبحثون عن مأوى يقيهم برد الشتاء، إلى ضحايا فيضانات آسفي المنتظرين تعويضا لم يصل، مرورا بتآكل القدرة الشرائية، واتساع رقعة الاحتجاجات الشبابية والقطاعية. وحين تصمت السلطة في لحظات كهذه، فإنها لا تطفئ الشائعات، بل تغذيها.
الأخطر من الغياب ذاته، هو محاولة تطبيعه عبر “حضور رمزي” باهت لا يستقيم سياسيا ولا مؤسساتيا في بلد تختزل فيه السلطة الفعلية في شخص الملك. صورة داخل إطار، كأنها رسالة ضمنية تقول إن الرمز يكفي، وإن الشكل يغني عن الفعل، وإن الدولة يمكن أن تدار عن بعد. غير أن الدول لا تقاد بالصور، والشرعية لا تعلق على الجدران. ففي لحظات الامتحان، يقاس الحكم بالحضور، وبالقدرة على المواجهة، لا بالاحتماء خلف البروتوكول.
إن غياب الملك عن حدث بهذا الوزن، في نظام تدار فيه البلاد من أعلى الهرم، لا يمكن فصله عن أزمة أعمق: أزمة ثقة بين السلطة والمجتمع، وأزمة تمثيل، وأزمة معنى. حين تتراجع العلاقة المباشرة بين الحاكم والمحكوم، وحين يتحول الغياب إلى نمط لا استثناء، يتبدل السؤال من “أين الملك؟” إلى “إلى أين يتجه المغرب؟”.
السلطة التي تخشى الشارع لا تستطيع قيادة المستقبل، والسلطة التي تراهن على الصور بدل الحضور، وعلى الصمت بدل المكاشفة، تعترف — ولو ضمنيًا — بأن المسافة بينها وبين المجتمع اتسعت إلى حد الخطر. كان يفترض أن يكون كأس أمم إفريقيا لحظة جامعة، فإذا به يتحول، بفعل الغياب الملكي، إلى مرآة تعكس قلقًا سياسيًا عميقا.
ليس المطلوب تبريرات جاهزة ولا بلاغات بلغة خشبية، بل وضوح واحترام لعقول المغاربة. لأن ما حدث ليس مجرد غياب شخص عن افتتاح بطولة رياضية، بل غياب سياسة تواصل، وغياب شجاعة، وربما غياب يقين داخل قمة السلطة نفسها. وحين يغيب الملك ويحضر “الكادر” فقط، فإن الرسالة التي تصل إلى الشارع ليست رسالة طمأنة، بل إشارة إلى أن شيئا ما في أعلى هرم الحكم لم يعد على ما يرام.



















