الجلفة أونلاين

عندما يصبح علاج الأسنان ترفًا… صرخة مواطنين في وجه الغلاء وانفلات الأسعار

عندما يصبح علاج الأسنان ترفًا… صرخة مواطنين في وجه الغلاء وانفلات الأسعار

لم تعد زيارة عيادة طب الأسنان في الجزائر أمرًا عاديًا أو متاحًا لجميع الفئات، بل تحولت بالنسبة للكثير من المواطنين إلى عبء مالي ثقيل، حتى أن البعض صار ينظر إليها باعتبارها “رفاهية” لا يقدر عليها إلا الميسورون. شكاوى عديدة غزت منصات التواصل الاجتماعي مؤخرًا، تعكس حجم الغضب من الارتفاع الكبير في أسعار خدمات الأسنان داخل العيادات الخاصة، حيث تراوحت التعليقات بين قصص معاناة فردية ونداءات جماعية تطالب الدولة بالتدخل العاجل لوضع حد لهذا الانفلات.

فبينما يؤكد الدستور الجزائري أن الصحة حق أساسي يضمنه القانون، يجد المواطن نفسه مضطرًا للاختيار بين تسديد فواتير باهظة مقابل علاج بسيط، أو الاستسلام للألم واللجوء إلى مسكنات تقليدية مثل القرنفل أو مسكنات دوائية زهيدة الثمن لا تعالج أصل المشكل. كثيرون كتبوا أن مجرد “قلع ضرس” قد يكلفهم ما يفوق نصف راتب شهري، بينما يتجاوز تركيب الأسنان أو الحشوات التجميلية مداخيل شهرين أو أكثر لآلاف العائلات.

المشكل لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يعكس خللاً هيكليًا في المنظومة الصحية. فالقطاع العمومي، رغم مجهوداته، يعاني من اكتظاظ رهيب ونقص التجهيزات وتأخر المواعيد التي قد تصل إلى عدة أشهر، ما يدفع المرضى مرغمين إلى طرق أبواب العيادات الخاصة، وهناك يواجهون أسعارًا “صادمة” لا تخضع في كثير من الأحيان لأي معايير واضحة. وهذا ما دفع البعض إلى وصف عيادات الأسنان بـ“المشاريع التجارية” أكثر من كونها مؤسسات صحية.

المختصون بدورهم يقرّون بوجود أزمة حقيقية، وإن اختلفوا في تحديد أسبابها. فبينما يشير بعض الأطباء إلى غلاء المواد المستوردة المستعملة في العلاج والتجهيزات المتطورة، يرى آخرون أن المشكلة تكمن في غياب تسقيف للأسعار وعدم وجود هيئات ضبط فعالة تراقب وتحدد هوامش الربح. ويذهب بعض المراقبين إلى أبعد من ذلك حين يتحدثون عن وجود “فوضى منظمة” يستفيد منها لوبيات الاستيراد ومالكو العيادات على حساب صحة المواطن.

الأخطر أن إهمال صحة الفم والأسنان قد لا يتوقف عند حدود الألم الموضعي أو فقدان الأسنان، بل يفتح الباب لأمراض خطيرة مثل التهابات القلب والشرايين ومشاكل الجهاز الهضمي، بحسب ما يؤكد أطباء مختصون. ومع ذلك، يبقى آلاف الجزائريين عاجزين عن العلاج بسبب الفقر وغياب تغطية اجتماعية كافية في هذا المجال. فحتى صناديق الضمان الاجتماعي لا تغطي إلا جزءًا ضئيلاً من التكاليف، غالبًا ما يقتصر على بعض العمليات الأساسية، تاركة المواطنين في مواجهة مباشرة مع الأسعار الخيالية.

في المقابل، يرى بعض الأطباء أن تحميل العيادات كامل المسؤولية فيه نوع من التبسيط، إذ أن غلاء العلاج يرتبط أيضًا بتراجع دور الدولة في تجهيز المستشفيات العمومية وضمان بدائل حقيقية للمواطن. ويؤكد هؤلاء أن الحل يكمن في مقاربة شاملة تبدأ من تحديث القطاع العمومي وتوفير تجهيزات عصرية، إلى جانب وضع آليات قانونية صارمة لتحديد أسعار معقولة في القطاع الخاص.

على شبكات التواصل الاجتماعي، تحولت القضية إلى نقاش وطني واسع، حيث طالب العديد من المواطنين بضرورة تسقيف الأسعار كما هو معمول به في بعض الدول، أو على الأقل فرض تسعيرة مرجعية وطنية تكون ملزمة للعيادات الخاصة. آخرون اقترحوا تكثيف الرقابة وتحرير تقارير دورية عن مستوى الخدمات والتكاليف، حتى يعرف المواطن ما له وما عليه.

في الوقت ذاته، برزت أصوات تدعو إلى توسيع التغطية الاجتماعية لتشمل علاجات الأسنان بشكل أوسع، باعتبار أن صحة الفم ليست ترفًا تجميليًا بل ركيزة أساسية من ركائز الصحة العامة. كما اقترح البعض إشراك جمعيات المجتمع المدني في التوعية بخطورة إهمال أمراض الفم والأسنان، والعمل على توفير قوافل طبية متنقلة للمناطق النائية التي يعجز سكانها حتى عن دفع تكاليف التنقل نحو المدن الكبرى.

القضية إذن لم تعد مجرد شكاوى فردية، بل تحولت إلى ملف اجتماعي بامتياز يعكس معضلة أعمق: كيف يمكن للدولة أن توازن بين حرية الاستثمار في القطاع الصحي وضمان الحق في العلاج لجميع مواطنيها؟ وكيف يمكن لوزارة الصحة أن تتدخل لضبط سوق تحوّل تدريجيًا إلى فضاء مفتوح بلا قواعد؟

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن أزمة أسعار طب الأسنان في الجزائر قد تكون جرس إنذار مبكر لإصلاحات أوسع في المنظومة الصحية، تضمن العدالة الاجتماعية وتعيد الاعتبار لحق المواطن في علاج لائق وميسور التكلفة. وحتى ذلك الحين، سيبقى آلاف الجزائريين عالقين بين خيارين أحلاهما مر: دفع مبالغ مرهقة أو الاستسلام لآلام صامتة، في انتظار يوم يقتنع فيه صانع القرار أن “صحة الفم” ليست كماليات، بل أساس لصحة الإنسان بأكملها.

المصدرالجلفة أونلاين
Exit mobile version