الجلفة – في كل عام، تتجدد الآمال في أن يكون المهرجان الوطني للثقافة والتراث النايلي، الذي تحتضنه ولاية الجلفة، منبراً أصيلاً لتوثيق وإبراز الموروث الثقافي العريق لأولاد نايل. إلا أن مشاهدات متكررة في فعاليات هذا الملتقى، وخصوصاً في تظاهرات الفنتازيا والعروض الفولكلورية التي ينظمها قطاع الثقافة، تثير قلقاً عميقاً وتساؤلات جوهرية حول مدى التزام هذه الفعاليات بالحفاظ على الأصالة، أو ميلها نحو التزييف والابتذال.
تتجه أصابع النقد هذه المرة نحو ظاهرة باتت صارخة: الاستعمال المتزايد لـ”المحشوشة” أو “الغايطة” المصنعة تقليدياً، وهي بندقية تعمل بآلية “اللزاز”، في عروض الفولكلور. يرى العديد من العارفين والمهتمين بالتراث النايلي أن هذه الأداة دخيلة تماماً على موروثنا المحلي، ولا علاقة لها بهوية الفارس النايلي الأصيلة. فما ألفناه وتوارثناه جيلاً بعد جيل، وما تجسد في المخيال الشعبي والذاكرة الجماعية، هو “المكحلة” العادية، الزويجة أو السنطرة، التي لطالما اعتز بها الرجل النايلي في حله وترحاله، في رحلات القنص والصيد، وفي مواجهة الأعداء، وفي عروض الفروسية و”العلفة”، وفي أعراس وأفراح المنطقة.
المكحلة: رمز النخوة والرجولة النايلية
“المكحلة” ليست مجرد سلاح، بل هي رمز عميق للنخوة، الشدة، الأنفة، والرجولة في الثقافة النايلية. هي جزء لا يتجزأ من “فزعة النايلي” واستعداده الدائم للنفير، كما تبرز في رقصة “الدارة” الشهيرة التي هي تيمة لأعراش أولاد نايل أثناء خوضهم الحروب والمعارك والالتحامات. إنها تعبر عن الهمة والصلابة، وتتجسد فيها صورة الفارس والخيل والمكحلة كرمز للمقاومة. الشاعر أبو الوليد قدوري يصف هذا الارتباط العميق:
نسمـــــع فلبارود للقــــرب ينوح وڨران المردوف يطحن فصفاح وسناطر مداولى عل قلب تنـــح لوماجات ذكير مـــــخزنها يتلاح ظلفات البارود في الخزنة تڨدح يخرج بوتسعة ينخت في لرواح مجمر من فم المشارب يتكـــفح تحلف عنو قارعد مهوش سلاح يبق ثلث ايــــام فالوذن مزمــح أيورزز بيه الرباط نتاع صـــحاح وجعبها تڨدي، علــــيها يـــتوكح ملي ظربو فلعظم برد الڨـــرواح
ويؤكد الشاعر الفحل حليمي عبد الرحيم على الدقة والمهارة المرتبطة بالمكحلة:
بادي نص نهار فـــي الساشم نفتل كلش عندي نربطو يمسى واجــــد جاي على حبة فريـــدة روس نمل امــــــن بالله ضــــربتو مـا تتعاود كي ننوي في صاحبي روحو تسّل وتحــس البارود يلقى مـــن باعـد
هذا الارتباط العضوي بين الفارس النايلي ومكحلته الأصيلة، بما تتضمنه من “صاشم” و”رباعي” و”شفروطي” و”نحاس” و”لدون”، هو ما يميز هذا التراث. فالنايلي، كما جاء في الموروث الشعبي، يعتز بسلاحه وحصانه الأصيل، ولا يفرط في “زوج حوايج: المرأة والمكحلة”.
في المقابل، فإن “المحشوشة” التي تعمل بـ”اللزاز” هي أداة “عراسية” يستعملها إخوتنا الشعانبة وبني مزاب وغيرهم في عروضهم الفولكلورية. لا تؤدي هذه الأداة أغراض الصيد والقنص، وهي غير مفيدة في ذلك السياق. الأدهى من ذلك، أن بعض الفرق المحلية في الجلفة قد تجرأت على استعمالها في رقصة “الدارة” النايلية، مصحوبة بلباس بعيد كل البعد عن الأصالة النايلية، مثل “سروال وGillet بألوان مختلفة يغلب عليها الأسود أحياناً، وهي مستوردة من مناطق أخرى، وتُرتدى بدون ڨندورة ولا برنوس، بتصميم مختلف”. هذا التشويه لا يقتصر على الأداة فحسب، بل يمتد إلى اللباس الذي يمسخ الصورة الحقيقية للفارس النايلي ويشوهها بشكل مقزز.
إن إدخال هذه “القايطة المحشوشة” عنوة إلى التراث النايلي، سواء عن عمد أو جهل، ومحاولة تكريسها في النشاطات التي تُعرض للعامة، هو تزييف تاريخي وتشويه فاضح للموروث الحقيقي. هذا الأمر تتحمله محافظة المهرجان الوطني للثقافة والتراث النايلي بشكل كامل، التي استحدثت أصلاً لتوثيق وتأصيل هذا التراث ونشره بشكله الحقيقي، والارتقاء به، وليس لتشويهه بالحشو دون تمحيص أو دراية أو استشارة العارفين من الشيوخ والفرسان والباحثين. هذا التراخي غير مقبول على الإطلاق.
يعبر الشاعر عن ألمه وحسرته على ما آل إليه وضع الفارس النايلي ومكحلته، مستشهداً ببيت شعر يحكي عن فارس أدركه الكبر، وحملت زوجته بندقيته، فقال متحسراً:
يا مكحلتي عزّْ بكري راح اعليك كان الصيد او كنت بايديا كافيي ضاري غير مْدلّك وانْراعي ليك ما نقبلشي يرفدك حدّْ اخلافي يوم الرحلة قانتي والعودة سيك دايم ما تخطيش ما بين اكتافي ذركا عادت قا لمعزج تلعب بيك لاحوها تحت القراير للسافي
هذا الواقع المؤلم يعكس حالنا اليوم، حيث يوكل الأمر لغير أهله، فيسيء لنفسه ولغيره، إما لعدم الكفاءة الصارخة أو بسبب “الريع وتحصيل مغانم دنيوية على حساب الصدق والحقيقة الماثلة”.
من هذا المنبر، يهمس صوت الغيرة على التراث في أذن السيد محافظ المهرجان وأعضاء محافظته: “غيّروا ما يجب تغييره فوراً، لأنها مسؤولية تاريخية وذاكرة المنطقة لا تنسى! لا تهاون في هذا الجانب”. ليس عيباً أن تُشكل لجنة استشارية من أكابر أولاد نايل المعنيين بالموروث، تعمل مع محافظة المهرجان، وتُستشار فيما يقدم ويصدر من خلال المهرجان أو غيره من الفعاليات، لضمان علاقته بتراث أولاد نايل والفصل في ذلك، والحفاظ عليه من الخلط والتشويه والتزييف. فـ”لا تنتظر ممن لا يفرق بين الطريقة والفليج أن ينجح في إبراز هذا الموروث”.
إن استمرار هذه الظواهر يهدد بتشويه صورة الفارس النايلي و”رُجلته” بشكل لا رجعة فيه، ويُفقد التراث النايلي الحقيقي بريقه وأصالته. آن الأوان لتصحيح المسار، وإعادة الاعتبار للمكحلة والقرطاس المربوط والنحاس واللدون والفروسية، وتقديم التراث النايلي كما حفظه الآباء والأجداد، بعيداً عن كل ما يمسخ هويته أو يبتذل رموزه.