حين يصبح تشخيص الفشل جريمة، ويعتبر قول الحقيقة استهدافا، فاعلم أن منظومة كاملة تشعر بالتهديد. ما قيل عن الجلفة من قبة البرلمان لم يكن زلة لسان، ولا نزوة خطاب، بل كسر علني لجدار الصمت الذي حمى سنوات من “التنمية الورقية” والإنجازات الوهمية. وحين اهتزت عروش التبرير، تحركت ماكينة التحريف بسرعة: اقتطاع، تأويل، ثم توجيه خبيث للاتهام نحو الحاضر، لا دفاعا عن الجلفة، بل هروبا من ماضيها المثقل بالإخفاقات. هنا بالضبط، لم يعد النقاش حول تصريح، بل حول من يملك الحق في تسمية الفشل باسمه، ومن اعتاد دفنه تحت ركام المهرجانات والتقارير المنفوخة.
من قبة البرلمان لم يكن الكلام عابرا، ولا الاتهام مرسلا بلا عنوان. حين تحدث وزير الداخلية عن الجلفة، كان يشهِر تشخيصا قاسيا لسنواتٍ من العبث التنموي، لا بيان إدانة لوالي لم يكمل عامه الأول في منصبه. غير أن من اعتادوا قراءة الوقائع بعين الانتقام، لا بعين السياق، سارعوا إلى اقتطاع التصريح من معناه، وتوجيهه زورا نحو الحاضر، في محاولةٍ مكشوفة لتبييض ماض مثقل بالإخفاقات، وتعليق فشل عهدات كاملة على شماعة رجل ورث تركة ملغمة وشرع، منذ يومه الأول، في تفكيكها قطعة قطعة. هذه ليست معركة أشخاص، بل معركة تصحيح مفاهيم، وفصل ضروري بين من صنع الأزمة، ومن وجد نفسه مطالبا بدفع فاتورتها.
في جلسةٍ برلمانية واضحة وصريحة، لم يتردد وزير الداخلية والجماعات المحلية، السعيد سعيود، في تشخيص حالة التدهور التنموي التي عاشتها ولاية الجلفة على امتداد عهدات متعاقبة، محملا المسؤولية لمن تعاقبوا على تسييرها من إدارات ومنتخبين محليين. كان الحديث، في جوهره، تقييما شاملا لإرث ثقيل خلفته سياسات اتسمت بـ“تنمية الأرقام” والاحتفاليات الكرنفالية، حيث لم تتجاوز نسب استهلاك الاعتمادات 5%، بينما بقيت المشاريع الحقيقية حبيسة العناوين البراقة، والتقارير المزينة، وغزوات “يالعوامة” التي لا تمت للواقع بصلة.
غير أن هذا التصريح — الواضح في سياقه الزمني والتدبيري — أسيء توظيفه من طرف أصوات محلية سارعت إلى انتزاعه من سياقه، وتحويره لاستهداف الوالي الحالي جهيد موس، رغم أن تعيينه لم يتجاوز العام الواحد. فبينما كان الوزير يشير صراحة إلى فشل تراكمي بلغ ذروته في عهد الوالي الأسبق عمار بن ساعد، اختارت هذه الأطراف أن تلصق فشل سنواتٍ برجلٍ ورث ملفات متعثرة، وشبهاتٍ إدارية، ومشاريع لم تبدأ أصلا.
الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة. فمنذ اليوم الأول، انطلق جهيد موس في مواجهة مباشرة مع الإرث المثقل، دون تردد أو مجاملة. لم يبحث عن شماعات، ولم يستثمر في خطاب الضحية، بل اختار طريقا أكثر كلفة: الاشتغال من داخل الورشات. وفي أقل من 12 شهرا، تحولت الجلفة — من عاصمتها إلى ولاياتها المنتدبة — إلى ورشات عمل مفتوحة. تم استئناف مشاريع الري المتوقفة منذ سنوات، وتجسيد تزفيت طرقات ظلت مهترئة لعقود، وتفعيل مشاريع صحية كانت مجمدة، وإيصال الكهرباء الريفية إلى مناطق نائية كانت خارج حسابات “الخرائط الملونة”.
هذا التحول لم يكن شكليا، بل انعكس في الأرقام والمؤشرات. فقد ارتفعت نسبة استهلاك برامج التنمية من 5% إلى أكثر من 48%، وفق أرقام رسمية صادرة عن مصالح المخطط الولائي، وهو رقم وحده كافٍ لفضح حجم العطب الذي كان مسكوتا عنه، وكشف الفارق بين إدارة كانت تستهلك الخطابات، وأخرى شرعت في استهلاك الاعتمادات.
ولأن الإدارة لا تصلح بالخطب ولا بالابتسامات البروتوكولية، بل بالمساءلة والقرارات الصعبة، لم يتردد الوالي في اتخاذ إجراءات صارمة. ففي الأشهر الأولى من عهدته، أقال خمسة مديرين جهويين في قطاعاتٍ حيوية، وعين مكانهم كفاءاتٍ شابة، معلنا بوضوح أن “تجسيد المشاريع في آجالها” لم يعد خيارا، بل شرطا للبقاء في المنصب. وفي دورات المجلس الولائي، كان الخطاب واحدا لا لبس فيه: إما أداء ملموس، أو مغادرة بلا ضجيج.
جهيد موس، المعروف بنزاهته ونظافة يده عبر كل المناصب التي تولاها، لم يغير منهجه منذ تعيينه. لم يعرف عنه الهروب إلى المكاتب المكيفة، ولا التلذذ بعدسات الكاميرات. حضوره كان — ولا يزال — في الميدان، بين المواطنين، وعلى طاولات العمل التنفيذي، حيث لا مكان للفرجة، ولا للتصفيق، بل للنتائج والمساءلة. وهو بالضبط ما أثار حفيظة من ألفوا أن تدار الولاية بمنطق “التكلاخ” وجلسات “البرستيج”، لا بمنطق الإنجاز والشفافية.
خلاصة الأمر، أن تصريح وزير الداخلية لم يكن حكما على الحاضر، بل تشريحا دقيقا لجثة إدارية ماتت من الداخل منذ سنوات. ومن الظلم الفادح — بل من التضليل المتعمد — أن يحمل والٍ لم يكمل عامه الأول مسؤولية عقدٍ كامل من العبث والتخريب المؤسسي، فقط لأن بعضهم لا يحتمل رؤية الغبار ينفض عن ملفات اعتادوا إبقاءها مغلقة.
اليوم، تسير الجلفة في اتجاهٍ مختلف، رغم الألغام، ورغم الضجيج. وحين يغلق باب “السيرك”، من الطبيعي أن يعلو صراخ من اعتاشوا على “الغزاوات”. لكن التاريخ، والشارع، والوقائع الميدانية، لن تنسى من خير بين أن يكون امتدادا لـ“يالعوامة”، أو رجل دولة في الميدان… فاختار أن يبلل حذاءه بالطين، لا أن يلمع صورته بالزيف.
