في لحظات مفصلية، تتجاوز الأوطان صخب الحياة اليومية، وتصغي لنداءٍ واحدٍ يعلو فوق كل الأصوات: نداء الوطن. حين تخيم غيوم الخطر وتشتد وطأة التحديات، تفتح صفحات التاريخ لتسجل بأحرفٍ من ذهبٍ سطورًا جديدةً من التضحية والفداء.
التعبئة العامة ليست مجرد قرارٍ سياديٍ يُتخذ في أروقة السلطة، بل هي نبضُ أمةٍ أبت إلا أن تبقى، وأن تصمد، وأن تنتصر. هي لحظةٌ فريدةٌ تتحول فيها الشوارع الهادئة إلى خلايا نحلٍ دؤوبة، والمدارس إلى ملاجئ آمنة، والمستشفيات إلى جبهاتٍ طبيةٍ لا تهدأ، والمصانع إلى قلاع إنتاجٍ تخدم المجهود الوطني. في تلك اللحظة، لا يسأل المواطن عن هويتك، بل يُقال له بصدقٍ وعمق: أنت الوطن!
في خضم الحروب، أو الكوارث الطبيعية، أو الأزمات التي تهدد كيان الدولة، يصبح كل فردٍ جنديًا في معركة البقاء، سواء حمل سلاحًا، أو حقيبة إسعاف، أو جهاز إعلامٍ مسؤول، أو كتابَ علمٍ ينير الدرب. يُستدعى الاحتياط، أولئك الذين ظنوا أن خدمتهم قد انتهت، فيلبون النداء بدموعٍ في الأعين وقلوبٍ تفيضُ بالولاء. تتحول حقول الفلاحين إلى مصادر تموينٍ سخية، وتتحول الجامعات إلى مختبراتٍ وطنيةٍ تبحث عن حلولٍ مبتكرة، ويصبح الإعلام منبرًا للوعي والتعبئة، لا مجرد أداةٍ للترويج.
إن التعبئة العامة هي امتحانٌ حقيقيٌ للولاء، واختبارٌ جوهريٌ للمعدن الأصيل للشعوب. وفي كل مرةٍ يواجه فيها الوطن خطرًا، تثبت الجزائرُ للعالم أجمع أن رجالها ونساءها لا يخيبون ظنها. من أقصى الجنوبِ الشاسع إلى أقصى الشمالِ الوارف، ومن صحاريها المترامية الأطراف إلى شطآنها الساحرة، ومن جبال الأوراس الشامخة إلى قلب العاصمة النابض، يتوحد الجميع تحت رايةٍ واحدةٍ خفاقة: الجزائرُ قبل كل شيء!
كم من أمٍ ودعت فلذة كبدها على أمل اللقاء، وكم من أبٍ كتم دموعه ليعلم أبناءه معنى التضحية الحقيقية، وكم من طبيبٍ سهر الليالي يعالج جراح الوطن الغالية، وكم من معلمٍ زرع في قلوب تلاميذه حب الوطن قبل حروف الدروس، وكم من عاملٍ وقف في المصنع ساعاتٍ مضاعفةٍ لا طمعًا في زيادة الأجر، بل لأن الوطن كان في أمس الحاجة إليه.
في لحظة التعبئة، تتلاشى الفروق بين غنيٍ وفقير، وبين مسؤولٍ ومواطنٍ بسيط، فالكل سواسيةٌ أمام نداء الأرض التي أنجبتهم. في التعبئة، لا تُقاس الأدوار بالأحجام، بل بالإخلاصِ والتفاني. قد تكون المساهمة بكلمةٍ صادقة، أو موقفٍ نبيل، أو وقتٍ ثمين، لكنها جميعًا تصب في خندقٍ واحدٍ حصين: خندق الوطن.
إن التعبئة العامة، وإن بدت إجراءً إداريًا أو تنظيميًا، إلا أنها في جوهرها إعلان حبٍ جماعي، حبٌ يتجاوز الأنانية، ويتخطى الخوف، ويتحدى كل الظروف. هي لحظةٌ ينصهر فيها الفرد في بوتقة الجماعة، وتذوب فيها المصالح الشخصية في بحر المصلحة الوطنية الكبرى.
وحين نقلب صفحات التاريخ، نجد أن أعظم الانتصارات لم تتحقق بالسلاح وحده، بل بالإرادة الجماعية الصلبة، وبقدرة الشعوب على تحويل المحن إلى فرصٍ سانحة، والخوف إلى قوةٍ جبارة، والفوضى إلى نظامٍ راسخ.
في التعبئة العامة، تعيد الدولة تعريف أدوارها، ويعيد المواطنون اكتشاف ذواتهم وقدراتهم الكامنة. هي لحظةٌ فاصلةٌ نثبت فيها للعالم أجمع أننا شعبٌ لا ينكسر، وأن الجزائر ليست مجرد ترابٍ وحدود، بل هي روحٌ سرمديةٌ تسري في عروق كل من ولد على أرضها الطاهرة أو أحبها بصدق. وإذا كانت الأمم تُقاس بقدرتها على الصمود، فإن الجزائر بتاريخها المجيد ودماء شهدائها الأبرار قد رسمت على جبين الزمن شهادة صمودٍ لا تزول.
فلنكن مستعدين دائمًا، لا لأننا نهوى الحروب أو ننتظر الكوارث، بل لأننا نحب هذا الوطن حد الثمالة، ونؤمن بأن خدمته شرفٌ عظيم، وحمايته واجبٌ مقدس، والدفاع عنه حياةٌ لا تقدر بثمن.
التعبئة العامة ليست لحظةً طارئةً فحسب، بل هي رسالةٌ دائمةٌ نذكر بها أنفسنا: أن الوطن لا يُحمى بالكلماتِ الرنانة وحدها، بل بالفعلِ والعطاءِ والاستعدادِ الدائم، وبالوقوفِ صفًا واحدًا في وجه الخطر مهما تلون. قد تنتهي الأزمة وتعود الحياة إلى طبيعتها، لكن تبقى الذكرى العطرة، ذكرى من لبوا النداء بقلوبٍ صادقة، ومن قدموا الغالي والنفيس دون تردد، ومن كتبوا بدمهم وعرقهم أروع معاني الانتماء.
سلامٌ على كل يدٍ بُسطت للعطاء، وكل روحٍ وهبت نفسها للوطن، وكل صوتٍ قال بصدقٍ وعزيمة: أنا جزائري، ولن أخذلك يا وطن!
فلننشر الوعي، ولنتابع الأحداث بعينٍ فاحصة، ولنصغِ إلى صوت الواجب الذي ينادينا من صميم الواقع. حفظ الله الجزائر أرضًا وشعبًا من كل شر.