الجلفة أونلاين

🩺 بورقعة فاروق… رجل الميدان الذي أعاد “نبض الحياة” لقطاع الصحة بالجلفة

🩺 بورقعة فاروق… رجل الميدان الذي أعاد “نبض الحياة” لقطاع الصحة بالجلفة

بعد أشهر قليلة من تنصيبه على رأس قطاع الصحة بولاية الجلفة، ورغم الوعكة الصحية التي ألزمتْه الفراش لأكثر من شهر، استطاع الشاب “بورقعة فاروق”، القادم من المستشفى المركزي لولاية المدية، أن يبعث في جسد القطاع نفسًا جديدًا وحيويةً غابت طويلاً. لقد تجسّد هذا النفس الجديد بوضوح في إعادة تهيئة جناح الاستعجالات الطبية والجراحية بالمؤسسة العمومية الاستشفائية “محاد عبد القادر” بالجلفة، الذي تحوّل من حالة مزرية إلى نموذج يُحتذى، كما تشهد عليه الصور والميدان. مدير الصحة، الذي ورث قطاعًا مريضًا في تفاصيله وإدارته، لم يتردد في خوض الميدان، متنقلاً بين المستشفيات والمراكز الصحية، مانحًا مثالًا على معنى المسؤولية حين تقترن بالفعل لا بالقول. غير أن طريق الإصلاح لا يتوقف عند تجديد الهياكل وطلاء الجدران، فالعصب الحقيقي للقطاع هو الإنسان. ومن دون إصلاحٍ جذريٍّ في المنظومة البشرية، وتفكيك لوبيات المصالح التي نخرت جسد الصحة بالجلفة، سيبقى أي جهد ماديٍّ منقوص الأثر محدود النتائج. ومع ذلك، لا ينبغي أن يُبخس الرجل حقّه؛ فقد نجح في تحريك المياه الراكدة وتجديد الهياكل، في انتظار أن يمتدّ التغيير إلى الإنسان، حيث يبدأ الإصلاح الحقيقي وتنتهي معاناة قطاع الصحة وكذا المريض.

أول مؤشر ملموس على روح التغيير التي حملها بورقعة كان في مشروع إعادة تهيئة مصلحة الاستعجالات الطبية والجراحية بالمؤسسة العمومية الاستشفائية

محاد عبد القادر بالجلفة. هذا الجناح، الذي ظلّ لسنوات عنوانًا للإهمال، تحوّل خلال أشهر قليلة إلى فضاء عصري مجهز بأحدث التجهيزات الطبية، وقاعات علاج وفحص مطابقة للمعايير الوطنية. اليوم، يقترب المشروع من مراحله الأخيرة قبل دخوله الخدمة رسميًا، في خطوة تُعدّ نقطة تحوّل رمزية وواقعية في آنٍ واحد: رمزية لأن مصلحة الاستعجالات هي مرآة كل نظام صحي، وواقعية لأنها نتاج رؤية عملية تشجع الإنجاز الملموس لا الوعود الكلامية.

ما يميز مدير الصحة الحالي أنه لا يكتفي بالتقارير الورقية أو الاجتماعات البروتوكولية، بل يفضّل النزول بنفسه إلى الميدان، حيث تتكشف الحقائق بلا رتوش. فمن زيارة مفاجئة إلى مستشفى دار الشيوخ، إلى تفقد مفاجئ لقاعات الولادة في حد الصحاري، مرورًا بجولات في المراكز الصحية الريفية، أثبت بورقعة فاروق أن المتابعة الميدانية ليست مجرد شعار إداري، بل ممارسة يومية. في كل محطة، كان يحرص على الاستماع المباشر لعمال القطاع، للأطباء والممرضين وحتى للمرضى، جامعًا الملاحظات والمقترحات، ومترجمًا إياها إلى أوامر تنفيذية فورية. هذا النهج العملي أعاد الحيوية إلى جهاز إداري ظلّ لسنوات يعاني من الجمود والتقاعس، وفتح الباب أمام ثقافة جديدة عنوانها: من يخطئ يُحاسب، ومن يُنجز يُكافأ.

لكن الإصلاح، كما يدركه بورقعة، لا يتوقف عند تجديد البنايات أو اقتناء التجهيزات. فالأزمة في قطاع الصحة بالجلفة – كما في كثير من الولايات – هي أزمة بشرية قبل أن تكون مادية. فقد ورث الرجل قطاعًا مثقلًا بالاختلالات التنظيمية وبما يُعرف في الوسط الصحي بلوبيات المصالح التي جعلت بعض المرافق العمومية تتحول إلى إقطاعيات صغيرة. وبحذر إداري ودبلوماسية محسوبة، بدأ في تفكيك منظومة العلاقات المغلقة داخل بعض المؤسسات الصحية، فاتحًا الباب أمام الكفاءة بدل الولاء، ومؤكدًا أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة “التنظيف الهادئ” المبني على احترام القانون والشفافية. في اجتماعاته الأخيرة مع مديري المؤسسات الاستشفائية، شدّد بورقعة على أن المريض هو محور الإصلاح، وأن أي مسؤول أو طبيب ينسى هذه القاعدة يفقد حقه في تمثيل القطاع. كلمات بسيطة لكنها كفيلة بتغيير ثقافة كانت تعتبر المواطن عنصر إزعاج لا عنصر خدمة.

إلى جانب تهيئة مصلحة الاستعجالات، يواصل قطاع الصحة تحت إشراف بورقعة فاروق عدة ورشات إصلاح تمسّ جوهر المنظومة الصحية في الولاية، أبرزها تحسين التكفل بالمريض عبر رقمنة المواعيد الطبية وتخفيف الضغط على المستشفيات المركزية، وإعادة توزيع الكوادر الطبية بين البلديات لضمان تغطية متوازنة، خاصة في المناطق النائية مثل الزعفران وعين معبد، والتحضير لفتح مصالح جديدة في مركز مكافحة السرطان بالجلفة بعد استلام أجهزة العلاج الإشعاعي (الراديو تيرابي)، وتوسيع قاعات العمليات والتوليد وتحسين خدمات الاستقبال للنساء الحوامل، إضافة إلى متابعة مشاريع بناء مستشفيين جديدين بسعة 60 سريرًا في الزعفران وعين معبد لتخفيف الضغط عن مستشفى الجلفة. كل هذه المشاريع تجري في وقت وجيز وبموارد محدودة، ما يعكس وجود إدارة فعّالة تعمل بمنطق النتائج لا الأعذار. القطاع الصحي في الجلفة عاش طويلاً أزمة ثقة بين المريض والمؤسسة العمومية، وأي إصلاح حقيقي – كما يصرّ بورقعة – يجب أن يبدأ من العنصر البشري. ولهذا، طرح جملة من المبادرات الهادفة إلى تحسين وضعية عمال الصحة نفسيًا واجتماعيًا، من بينها المطالبة بسكنات وظيفية للأطباء الأخصائيين في البلديات البعيدة، وإدراج سكنات اجتماعية ضمن حصص “عدل” لعمال القطاع الصحي، وإعادة النظر في نظام التغطية الصحية (بطاقة الشفاء) لتمكين عمال الصحة من تغطية كاملة نظرًا لطبيعة عملهم الحساسة، وفتح باب التشغيل لحاملي شهادات الشبه طبي المتخرجين من المعاهد الخاصة. هذه المطالب، التي رُفعت إلى الوزارة بالتنسيق مع نواب الولاية، تشكل لبنة أولى نحو بيئة عمل أكثر استقرارًا وإنصافًا تعيد للممرض والطبيب مكانتهما ودافعهما المهني. المنجزات المحققة خلال فترة قصيرة لا تعني أن الطريق مفروش بالورود. فالتحديات ما تزال قائمة: نقص الأخصائيين في التوليد وجراحة الأطفال، ضغط الاستعجالات في مواسم الذروة، وقلة سيارات الإسعاف في المناطق الريفية. لكن ما يميز المرحلة الحالية أن هناك إرادة في مواجهة الإخفاقات لا تبريرها، وهي سمة نادرة في الإدارة المحلية. في كلماته الأخيرة، قال بورقعة لأحد الطواقم الطبية أثناء زيارته المفاجئة: “لا أعدكم بالمستحيل، لكنني أعدكم أننا سنشتغل كما لو أن كل مريض هو فرد من عائلتنا.” عبارة تختصر فلسفته في التسيير، وتلخّص روح التغيير التي يحتاجها قطاع أنهكته البيروقراطية والرتابة.

بورقعة فاروق، مدير الصحة بولاية الجلفة، لم يأتِ بخطابات كبرى أو وعود براقة. جاء بمنهج بسيط وواضح: ميدانية دائمة، متابعة دقيقة، ومحاسبة شفافة. نجح في إعادة الاعتبار لمفهوم الخدمة العمومية داخل المستشفيات، وبدأ في بناء جسور الثقة بين الإدارة والمواطنين. ورغم قصر المدة التي قضاها في منصبه، إلا أن بصماته الميدانية واضحة في كل مصلحة تُرمم، وكل جهاز يُصلح، وكل موظف يُعاد توجيهه نحو خدمة المريض. قد لا تكون الجلفة اليوم في وضع صحي مثالي، لكنها بلا شكّ على الطريق الصحيح بفضل قيادة شابة جعلت من الفعل الميداني شعارها الأول. وإذا كان الإصلاح الحقيقي يبدأ من الشجاعة في مواجهة الواقع، فإن بورقعة فاروق أثبت أن المسؤول الذي ينزل إلى الميدان هو وحده القادر على بعث الأمل في جسد قطاعٍ أنهكته سنوات من الإهمال.

المصدرالجلفة أونلاين
Exit mobile version