الجلفة – مرة أخرى، تجد ولاية الجلفة، تلك الأرض الصابرة التي اعتادت ابتلاع جراحها في صمتٍ مُر، نفسها أمام مشهدٍ مُخزٍ لامتهان كرامة الإنسان. هذه المرة، لم تكن الكارثة زلزالًا أو فيضانًا، بل مجرد انهيار أرضي في المدخل الرئيسي لجامعة زيان عاشور، منذ الثلاثاء الماضي، كان كافيًا لفضح غياب المسؤولية، وتراخي الضمائر، وخراب البنى التحتية قبل خراب الحجر.
تهوكت الأرض، فانهارت معها آمال الطلبة في يومٍ دراسيٍ طبيعي. المدخل الرئيسي للجامعة تحول فجأة إلى مجرد ذكرى، طريقٌ مقطوعٌ، وموقف حافلات نقلٍ نُقلَ إلى مسافة ثلاثة كيلومترات بعيدًا عن الإقامات الجامعية. هذا الواقع المرير يُرغم مئات الطالبات والطلبة على قطع هذه المسافة سيرًا على الأقدام كل يوم، تحت برد الصباح القارس أو حر الظهيرة اللاهب، على طرقٍ موحشةٍ تثير مخاوف التحرش أو الحوادث، أو حتى تفاقم الأمراض المزمنة التي يعاني منها البعض.
أيُّ عقلٍ إداريٍّ يرى هذا المشهدَ ولا يتحرك؟ أيُّ قلبِ مسؤولٍ يرى الطالباتِ يقطعن الكيلومتراتِ مشيًا ولا يخجل؟ من يضمنُ أمنَ وسلامةَ طالبةٍ تضطرُ للعودةِ سيرًا على الأقدامِ في وقتنا هذا؟ أينَ هو الحسُّ الإنسانيُّ قبلَ أن نتحدثَ عن الواجبِ الإداري؟ أينَ هي لجنةُ التدخلِ السريع؟ أينَ هي السلطاتُ المحلية؟ أينَ هي الجامعةُ نفسها؟ هل يجبُ أن تسقطَ ضحيةٌ أو تحدثَ فاجعةٌ ليتحركوا؟
يا سادة، ليست هذه نزهةً، بل هو مشوارٌ إجباريٌّ يوميٌّ لطلبةٍ أنهكهم أصلاً ضغطُ الدراسةِ وربما سوءُ الخدماتِ في الإقامات، ليُضافَ إليهم هذا العناءُ المجاني. تهوكُ الأرضِ كشفَ تهوكَ التخطيط، وكشفَ فسادَ الإنجاز، وكشفَ هشاشةَ المشاريعِ التي تتهاوى بعدَ سنواتٍ قليلة. جامعةُ زيان عاشور، التي تحملُ اسمَ شهيدٍ، يجبُ أن تُحترمَ بما يليقُ باسمِها، لا أن تتحولَ إلى محطةِ تجاربَ فاشلةٍ لمقاولينَ ومهندسينَ لا يهمهم سوى الربح.
يا مسؤولين، هل نسيتم أن هؤلاء الطلبة أمانة؟ وأنهم بناتُ الناسِ وأبناءُ الفقراءِ وأملُ الجزائرِ الحقيقي؟ هل نسيتم أنكم أقسمتم على حفظِ كرامةِ المواطنِ وتقديمِ الخدمةِ والسهرِ على راحةِ الشعب؟ أم أن القسمَ كان مجردَ كلماتٍ تُقالُ في مراسمِ التعيينِ ثم تُنسى؟
الطلبةُ اليومَ يمشونَ بأقدامِهم نحو الجامعةِ، وأعينُهم نحو اللا شيء! لا أحدَ يُطمئنهم، ولا أحدَ يُبرر، ولا أحدَ يعتذرُ حتى! أما القلوبُ فقد ملّت من الصمتِ ومن الوعودِ ومن اللجانِ التي لا تأتي، ومن الحلولِ المؤقتةِ لتبقى الأزمةُ الحقيقيةُ أبدية.
الجلفةُ اليومَ تنزفُ من جديد، ليس من جرحٍ واحدٍ، بل من جراحٍ متراكمة: من سوءِ البنيةِ التحتية، ومن التجاهلِ الإداري، ومن الرداءةِ التي أصبحتْ نظامًا، ومن اللامبالاةِ التي أصبحتْ ثقافة! فإلى متى نصبر؟ وإلى متى نطالبُ فقط بحقنا في طريقٍ محترم؟ هل صار حلمًا أن تصلَ الطالبةُ إلى جامعتِها بأمان؟ وهل صار السيرُ ثلاثة كيلومتراتٍ في يومٍ ممطرٍ قدرًا مكتوبًا على من اختاروا العلمَ بدلَ الجهل؟
لكِ اللهُ يا جلفة، ولكم اللهُ يا طلبةَ زيان عاشور. أما من لا يسمعُ صراخَ الأرضِ وهي تنهار، ولا يرى الطالبَ وهو يترنحُ في طريقِهِ، فقد اختارَ أن يدفنَ إنسانيتَهُ قبلَ أن يدفنَ واجبَهُ.