عين أفقه، الجلفة – في بلدية عين أفقه بدائرة حد الصحاري بولاية الجلفة، وتحديدًا في رحاب مدرسة الشهيد فلقومة بلقاسم، يقف براعم الوطن على أعتاب العلم بأقدامٍ مبتلةٍ وقلوبٍ مرتجفة. ليس خوفًا من الدرس أو صرامة المعلم، بل من قطرات المطر الغزيرة التي تخترق سقوف الأقسام المتهالكة، لتتساقط بغزارة على دفاترهم، وعلى مقاعدهم، وعلى أحلامهم الصغيرة. مطرٌ يروي الأرض العطشى، لكنه هنا يكشفُ العورات، ويفضحُ الرداءةَ والغشَّ وانعدام الضمير.
“ترميمات حديثة”..؟ نعم، على الورق إنجازٌ بنسبة 100%! مشاريعٌ كلفت خزينة الدولة مئات الملايين، لكن النتيجة تشققاتٌ عميقةٌ في السقف، وتسرباتٌ مائيةٌ غزيرة، وبلاطٌ متصدعٌ، وأبوابٌ عصيةٌ على الإغلاق، ونوافذٌ ترفضُ الانفتاح، وطلاءٌ يتساقطُ كما سقطت معه القيمُ والأخلاق. ترى، أين ذهبت تلك الملايين؟ من قبضها؟ ومن راقب التنفيذ؟ ومن استلم الأشغال؟ ومن سوّق لهذا العبث على أنه إنجازٌ يُشاد به؟
هل الوطنُ مجردُ صفقةٍ مشبوهة؟ هل مدارسُنا مجردُ واجهةٍ للصورِ الرسميةِ الباهتة؟ هل التلميذُ في هذه البلديةِ المنكوبةِ أقلُّ استحقاقًا للكرامةِ من زميلهِ في الولايةِ أو العاصمة؟ فمع أولِ زخّةِ مطرٍ، يتحولُ القسمُ إلى مشهدٍ مأساويٍّ عبثي. التلميذُ يتنقلُ بين المقاعدِ بحثًا عن بقعةٍ جافةٍ يتفادى فيها قطراتِ الماءِ المتساقطة، والمعلمُ يجففُ المكانَ قبلَ أن يشرحَ الدرس، والجميعُ يتمنونَ توقفَ المطرِ لا حبًا في الشمس، بل هربًا من الابتلالِ القسري.
يا سادة، ليست هذهِ مجردَ مدرسة، إنها ذاكرةُ طفل، إنها حلمُ أمٍ تودُّ أن ترى صغيرَها حاملاً محفظةَ كتبٍ لا منشفةً لتجفيفِ مقعده، إنها رغبةُ معلمٍ نزيهٍ لا يريدُ أن يشرحَ درسًا في الطبيعةِ بينما الطبيعةُ تسيلُ من فوقِ رأسهِ بشكلٍ كارثي!
ولكن، لحسنِ الحظ، هناكَ شيءٌ واحدٌ لم يسرقْهُ الفسادُ: ضميرُ المعلم! ذلك الجنديُّ المجهولُ الذي قررَ أن يُزينَ القسمَ المتهالك، وأن يعلقَ رسوماتِ التلاميذِ ليُخفيَ التشققاتِ العميقة، وأن يزرعَ وردةً من ورقٍ في شقوقِ الجدران، وأن يجعلَ من الرداءةِ بساطًا للخلقِ والإبداع. تحيةً لهؤلاءِ الجنودِ الذين لا يحملونَ سلاحًا، بل طباشيرًا يضيءُ دروبَ العلمِ رغمَ الظلامِ المحيط.
أينَ هي مصالحُ الرقابةِ؟ أينَ هو ضميرُ المسؤولِ المحلي؟ أينَ المهندسُ الذي أمضى على سلامةِ البنايةِ المتهالكة؟ أينَ هو الإعلامُ المحليُّ والجهويُّ؟ أينَ هو النائبُ البرلمانيُّ والنائبُ الولائيُّ الذي نُصِّبَ ليرفعَ صوتَ المواطن؟ هل شاهدَ أحدُهم معاناةَ الأطفالِ وهم يرفعون دفاترَهم لتفادي قطراتِ الماءِ الباردة؟ هل رأى أحدُهم خيبةَ المعلمِ حين يُطلبُ منهُ أن يشرحَ دورةَ الماءِ في الطبيعةِ وهو يعيشُها بشكلٍ مأساويٍّ داخلَ قسمِهِ؟
إن هذهِ المدرسةَ ليستْ حالةً فريدة، فـ “فلقومة بلقاسم” ليستْ إلا عينةً من واقعٍ مُخيفٍ تعيشُهُ عشراتُ المدارسِ في بلدياتِ ولايةِ الجلفة. مدارسُ لا تُدرسُ، بل تبكي. تلاميذُ لا يتعلمونَ، بل يهربونَ من المطر. معلمونَ لا يُدرسونَ، بل يُقاتلونَ من أجلِ كرامةِ القسمِ وحقِ التلميذِ في بيئةٍ تعليميةٍ لائقة.
هل نحتاجُ فاجعةً مماثلةً لما حدثَ لكي نتحرك؟ هل ننتظرُ انهيارَ سقفٍ فوقَ رأسِ تلميذٍ بريءٍ لكي نُحاسبَ المقاولَ الغشاش؟ هل الضميرُ لا يستيقظُ إلا بعدَ أن تُسفكَ الدماءُ؟
نحنُ نطلبُ فقط سقفًا لا يرشح، نطلبُ فقط قسمًا آمنًا لطفلٍ صغيرٍ يحملُ حقيبةَ أحلامِهِ على ظهرِهِ، نطلبُ فقط أن يعودَ الضميرُ من منفاهُ الطويل. كفى عبثًا! فالمستقبلُ لا يُبنى بالإسمنتِ المغشوشِ، بل بالصدقِ والإخلاصِ والمحاسبة.